30‏/1‏/2009

خارج النص / الشاعر مراد السوداني


خارج النص


بقلم / الشاعر مراد السوداني / رئيس بيت الشعر الفلسطيني

" كلمة تقديم وتعريف بديوان دوثان"

هل يقدّمني النصُّ، أم أتقدّم به محموماً بسياحات مرّة وتوغُّلات ناغِرَة في أُتون راجفةٍ ندّاهة !! ثمّة إشكالوية تطلُّ بقرنين دقيقين، دقّة الوجع ومداره في آنٍ.. إنه رهان، إذاً، والتقدّم وشاح الجَسور وفكرته النافذة كرمح إغريقي طاعنٍ في القدامة واشتقاقاتها السيّالة دفئاً ودفَقْاً محيطاً.. مغامرة هو النصّ، هنا في اقترابه من حميمية البيت وحديقة الروح. بأزاهيره وفوح الندي الحالم.. يمسكنا العطاري من قلوبنا إلي مجمرة النص لنُصَابَ باللذعة المائية في القصيدة، ولثغة المفردات التي تكرجُ علي بياض الورق جافلة بتفاصيل (المكان).. مسقط الرأس، استدراج الطفولة إلي عتباتها الأولي.. البرّية الطالعة من درغلة نايات الرعيان ونهنهاتِ اليرغول الراشح رجفاً حانياً.. هذا الشاعر الريفي منخل بالوعر ورغاءِ عناصره الفائرة.. الريف يرفع النص ويترافع بالنص في وجه سلالات القبح وزناخة الادعاءات.. والتهارش النابح علي أصالة بلائنا.. ولغو الحداثة الكالح.. يا للبلاد وهي تبذخ عطاءً وتجرش صوّانها بناب الصبر فتفيض البركة لغة وإبداعاً ونزفاً ناسغاً تقطف في عيون أيائل الجبل وخضرة مرج ابن عامر الدفوق حياةً وحصاداً بمواويله الجافلات..
يا للبلاد علي شفة الشاعر ترفع قولة حقّها وحقيقتها.. وهي تشلح الزيف الزاحف عليها.. ناخراً، ناحراً.. يا للبلاد علي شفة الشاعر الرانخ مواريث غناء ورباباتٍ مجروحة بهزيز الفواجع..
يا للشاعر نعّاف تراب القصيدة مثل ذئب ذاهلٍ.. وبلوطة تتلمَّظُ صباحات الوديان.. النصّ مرافعة ناجزة ضدَّ النمل الأسود النقيض الذي يقضم وثيقة الوطن / النص.. ويهرئ الحروف لاستبدال الحكاية بنقائضها وبدائلها، فيبدّل الأسماء ويحذف الأمكنة ويمدُّ ألسنة موته وزهومته.. يرفع دوثان فتي كنعان الجموح ليطلق من كنانة الأسطورة ورماد التذكرّ سهاماً خضراء مُسنَبْلة بخير الأرض وفعال أجدادنا فيها كَدْحُ محاريث.. ورَشْقُ بذار يتعرَّم ذهبياً كجدائل العذراوات.. دوثان وشمٌ بالأخضر مدروزٌ علي جباه ورّادات العين، ربّات الجرار، بلغة العطاري.
و دوثان تشكيلٌ معانِد لتحللات العناصر في ذاكرة (المكان).. دوثان ، أيضاًً، مكانية نَسْغُها التجربة الإنسانية المرفوعة للمقدّس.. ورهبة الفعل وجبروته، كذلك.. ينحلٌّ الاسم إلي هيولي البدء فتفيض البلاد حنينها وحنّاءها القاني.. فيدمع ناي، ويعلو الكلام بإرنانه الجهور علي كتف عمتنا التلّة.. وسؤالنا البكر عن جدوي التذكرُّ.. في زماننا الأعرج الكليم.. و دوثان طاقة الاسم.. اشتداد العلاقة بين المسمّي وبلاغة المعني.. بلاغة تشمّها وتتحسس وقدها من شميم التراب ورماد مَنْ صاغوا أسطورة المكان وَعَمَرُوه بِعرْقهم اللافح وعَرَقِهِمُ المالح الكظيم.. يا لعوج بن عناق يحدّق في مجمرة هذا الـ دوثان فتتقادح لغة مُطَلْسَمَةٌ قادرة علي الحياة والفرح والغناء.. فتسيل شقائق النعمان نزفاً من غير سوء.. النصّ مرافعة عالية باقتدار تليقُ بجيلٍ ينحاز لقوّة حقّه في الوجود.. وحقّه في الحرية.. وحقّه في نداء غدٍ أكثر أمناً.. وأقلْ نَهْباًَ.. النص وشم، إذاً، خَدَرٌ ناعسٌ مثل عشبٍ طالعٍ من شقوق دوثان .. وشمٌ نضّاح برهبوت البئر ورغبوت الحكاية الحكاية.. الطافحة اشتعالات وَجْد.. وغرغرة روح لاهثة في براح تفّاحها الغويْ.. تقلّب كلام النصّ فتتراءي تحت حجارته اكتظاظات تسعي.. فيَنفرُ الحجلُ البريٌّ، والسُمَّنُ، وتجفلُ قطاة، وتحمحم خيول اللغة بكامل حشودها واحتشادها الأروسي.. مبللّةٌ أعرافها بندي صباحات راغية بمواويل الرعاة، تصفرِّهم الريح.. تدهمك - عزيزي القارئ - دكُنّة عُلِّيق مشاغبٍ، ونارنجٌ متثائبُ أو يكاد.. النصّ مؤانسة والوحشي، مصعلكة النشيد علي شفة المنشِد القروي.. النصُ احتمالاتٌ للوجع والفقر والتأمل والسياحة في برّية القول وفحواه.. البحث عن لُجفِ المعاني.. وغُفْل التراويد منعوفة علي عتبات البلاد.. وعْدٌ بجماليات تليقُ بالشاعر ويليقُ بها.. ذاتَ ربيع نهبط من كفر راعي - جنين، الزاجل العنيد نجيب صبري، حسين العطاري.. حكّاء المكان وسادنه، والعطاري، وأنا.. إلي نبع الحفيرة كفُّ دوثان .. مرجٌ من الزعتر الجبلي يقطف أحزاننا.. ونلثغ بحرقة اللون الناهب الحريِّفْ.. نصل الجبَّ فتنهض الحكاية حيّة.. المكان بطلّته اليوسفية ونقع سنابك الخيل والطِرَاد المُرِّ في بطن المرج الدفوق خضرة وسرسبات رؤي.. هنا الجبّ .. ما زال صوت النبي معلّقاً في فضاء البئر يرنُّ.. وها هو القميص العفي.. قميص الحكاية المُدَمْدِمُ بصيرة ونفاذاً وإحالات لبلاغة النبي، اليوسفي طلعة وطلّةً جارفة عارمة.. نتحلَّق حول رقبة البئر .. مأخوذاً، أبدو.. مسحوباً لأعماقٍ موغلةٍ في الغربة والنأي. حالة من الارتباك الممضِّ.. واندهاش طاغٍ، تلبَّسني فجأة.. لا بُدّ من نثر إذاً، لا بُدّ من نثرٍ إلهي لينتصر الرسولُ .. قال درويش البلاد. فيما يشبه الهذيان بحتُ فخفتُ من سطوة البئر ورهبة نداءات العمق.. وفي هذه اللحظات ارتجل زاجلنا، نجيب:




مِنْ يومِنْ سِبْنا السِلاحْ

مَفْهِمْنا معنى الأوطانْ
اطْلِعْنا من روضْ الأفراحْ

نِزْلْنا في جُبِّ الأحزانْ

*

عَ يوسفْ يبكي يعقوبْ

وأصْبَحْ عَ أمرو مَغْلوبْ
لكنْ لمّا شمِّ الثوبْ

رِجْعْ البَصَرْ من الرحمنْ

*

يا يوسف مرّت لِسْنينْ

وعِشْنَا ما بَعْدِ الألفينْ
وكُثُرْ ماحْنَا كذّابينْ

نكَذِّبْ آياتْ القرآنْ

*

زُلَيْخَةْ ستْ البدُورْ

كانتْ عَ يوسفْ بِدوْرْ
خرج من جِبُّو منصورْ

وجبِّ زليخة من الوجدانْ






ثمة البئر الحكاية.. وحكاية البئر.. والحادي والعنَّات.. والشاعر يلتقط بباصريته وعين القلب خيط الأرجوان علي تلَّة من أرض كنعان لينازل دوثنان بشموخه العاتي وحقيقته الأكيدة.. مستوطنة مابو دوثان التي فشلت أرضتها الغُولِيَّة السوداء من أن تغيِّب خارطة دوثان وشمسها المهيمنة .


.
تل دوثان:

من المواقع الأثرية في عرابة، ويعتبر من أهم المواقع الأثرية الفلسطينية، وهو من أهم مصادر دراسة التاريخ الفلسطيني القديم. يقع التل إلى الشرق من عرابة على بعد 2 كم. جرت فيه بعض الحفريات العلمية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بمبادرة من المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية. توصلت نتائج هذه الحفريات إلى الكشف عن توالي تتابع سكني في الموقع نفسه من 19 حقبة تاريخية رئيسية، حيث أنتجت التراكمات هذا التل الكبير الذي كان أهم تلك الفترات وهي الفترة البرونزية الكنعانية، فكانت إحدى أهم الممالك الكنعانية الحصينة في فترة العصور البرونزية، وقد تم العثور على أعداد هائلة من الأدوات والقطع الأثرية في هذا الموقع، والتي في معظمها إما صدّر للخارج أو موجود في المتحف الفلسطيني في القدس أو في متحف عمّان في جبل القلعة. وكانت تمر من هذا الموقع؛ الطريق التي تقطع أواسط البلاد من شمالها إلى جنوبها ثم إلى سيناء فمصر، وذكر أن سيدنا يوسف (عليه السلام) ألقي فيه، أي الجُبُّ من قبل إخوتهِ، ويعرف حاليًّا بـ(نبع الحفيرة)، وهو مجاور تمامًا لتل دوثان، وكان ذلك حسب الروايات التاريخية سنة 1678 ق.م. وقصته مشهورة ذكرها القران الكريم في سورة يوسف. وعلى ضوء هذه الرواية التاريخية حرص الحجاج المسيحيون المتجهون إلى الناصرة على المرور بهذا الموقع إلى أن تدخل الاحتلال العام 1967 وعمل على تحويل مسار الحج المسيحي.
Palestine and Israel /page 92
مشروع كتاب: "تاريخ عرابة": حسين العطاري.

ليست هناك تعليقات: