2‏/2‏/2010

'دوثان' لعبد السلام العطاري تعيد حكاية المكان



د. أحمد رفيق عوض*


حرارة اللغة المتدفقة، تجاور الأسماء والمسميات، اشتعالات الصور، المتح من الذاكرة، الأسئلة الكثيرة التي بلا أجوبة، الأجوبة التي تقفز هكذا دون استئذان،
كل ذلك تجده في ديوان الشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري، الذي اسماه' دوثان' في مناطحة مقصودة للأوهام والإبهام.و' دوثان' هي تلك الهضبة اليانعة على الطريق القديم الذي كانت قوافل كنعان تقطعه من الشمال إلى الجنوب، وهي ذات الطريق التي قطعها السيد المسيح ليصل إلى القدس، وفي ' دوثان' أيضاً، أُلقي يوسف في بئر 'دوثان' ليكون على قارعة الطريق، ليلتقطه بعض السيارة.'دوثان' إذن، جدلية الظلم والعدل، وأمثولة الظلم و الانتصار عليه.دوثان المكان والحكاية، عنوان خلود للانتصار والبقاء واعتلاء الحقيقة هضاب هذه الأرض.العطاري، المجاور لهذا البئر، الذي سمع ورأى وتسلّق الهضبة وأكل من شومرها وهندبائها ولسعته ملكات النحل هناك، يمتشق قلبه ليكتب، قلباً قديماً مترعاً بحكايات المكان المقدّس الأسطوري.يتحول المكان إلى مفردةٍ، المُفردة تفرّخ ملايين المفردات، تنفتح على ماضٍ من قريب ومن بعيد. وأمام الحكايات الموغلة في الأناقة والاكتمال، يحلو قول الشعر، أو لا ينبغي إلاّ قول الشعر. ولهذا يقول الشاعر:'دوثان' الاسم الأول، واسمنا الأخير وشم في الذاكرة.الاسم الذي تدخل فيه الأسماء وتخلق منه الأسماء ما زال ينادينا بأسماء جداتنا وآبائنا كي لا ننسى أو لا ينسى 'دوثان'.يتلبّس المكان الشاعر ويتلبس الحكاية معا، الضحايا يبحثون عن أشباههم، الضحايا تتقوى بالضحايا، الضحايا تنتصر عادة، تاريخ الضحايا يستمرّ، يشهد، يُحرج، يُربك، والضحايا ذاكرة نابضة، الظلم طبقات سرعان ما تنهار لأقل رائحة أو صوت أو كلمة.عبد السلام العطاري يعرف ماذا يفعل هنا، انه يعيد تفاصيل ما مضى من خلال ما يحدث، المكان لم يتبدّل أبداً، فلماذا تتبدّل الحكاية إذن، والساكنون على الهضبة وحولها هم هم لم يتغيّروا ولم يتبدّلوا.أستذكر هنا بهذا الصدد ما كتبه الشاعر عزالدين المناصرة عن بلدته' بني نعيم' إذ انه كتب عنها باعتبار أن عـائلته 'المناصرة' هي تـلك الـعائلة الكنعـانـية الأولى، لا انقطاع ولا انفصال، والحقيقة أن هذا يعجبني جداً، ويطربني ويعزّيني، يطربني القول أن هذي البلاد لم تفرغ أبداً من أهلها، وأن أهلها ظلوا حول أشجارهم وسلاسلهم الحجرية منذ الإنسان الأول. وهذا ما استوقفني جداً في ديوان عبد السلام العطاري أيضاً. 'دوثان' لم ننتبه إليها أبداً، انْتَبَه إليها وإلى حكايتها المُحتل الذي بنى مستوطنة قريبة من المكان باسم 'مابو دوتان'، وإذا كنت أعرف من العبرية شيئاً فترجمة هذا الاسم تعني 'عودة دوثان' أي أن هناك استعادة للماضي عن طريق تجسيده والإحساس به، وكأن سبعة آلاف عام لم تكن سوى يوم واحد. فهل أراد عبد السلام العطاري أن يجعل من الديوان موازياً للمستوطنة في هدفها على الأقل؟لغة الديوان أنيقة ورقيقة وفيها ضجيج وفيها إيقاع وفيها تدافع، والصور الشعرية في اغلبها قريبة وموحية ولكنها لا تخلو من الغموض، ولا أظلم الشاعر إذ أقول إن في الديوان أخطاء الديوان الأول كالعادة. بعض إدعاء، بعض إيغال، وبعض تطرّف، ولكن الشعر يطغى ويسطو دائماً، يشفع له في ذلك تلك الجرأة وذلك الاقتحام، جرأة القول، جرأة التصوير، جرأة الموضوع، جرأة الهدف.'دوثان' ديوان صغير في حجمه، ولكنه كبير في عالمه الذي يؤسسه من مفردات المكان، وزوايا الذاكرة، واشتعالات القلب.'



روائي و كاتب من فلسطين القدس العربي

ليست هناك تعليقات: