2‏/2‏/2010

الشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري..يكتب بالضوء ويقف عنده، ويتمنى أن يكون الشعر شرطي المرور.



الشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري..
يكتب بالضوء ويقف عنده، ويتمنى أن يكون الشعر شرطي المرور.

ابتسام مكوّر*

عندما تواصلت معه أول مرة بالصدفة، حركتني في صوته نبرة وشدني قي عينيه بريق لم أدرك أبعادهما وقتها، ثم هزني فضول غريب إلى عالم هذا الرجل، دخلنا في حوار مطول فيه هزات وانفعالات وأسئلة لا شرقية ولا غربية، حوار استعملت فيه كل خبثي وخزعبلاتي المهنية، وحافظ هو فيه على هدوئه وأدبه، وحاولت تحطيم أسوار خجله وغربته، وقِبل بحذر أن يسافر معي من تلال الزعتر والبرتقال إلى حقول الزيتون واللوز والياسمين، وإلى ...موانئ البوح. قلت له في نهاية هذا الحوار الأول ولم أكن قد قرأت له شيئا، بعد فيك يا سيدي كنز وسيأتينا منك ريح وروح وريحان، قال لي يومها بأنفة أُحبها عندما تكون عند فلسطيني قال: وهل كنت تمتحنينني؟؟! نعم هكذا قال ... ثم أرسل لي دوثان !!!!!

صباح الخير يا دوثان
دمعة حين لا تصافحك هي
يد طفل مبللة بصوت الجب
بشهوة الخيل التي تلعب في المرج
وبشهوة العطش
يا حقلا
ننبت فيه
وندفن فيه
ونبعث فيه

وكان حدسي صائبا...هو فعلا ريح وروح وريحان... وبعث لي قصائد أخرى ...وأخرى..!! وأخرى لم يكن كتبها بعد ولكنها انسابت خلال حديثه لي تعلن انه شاعر حتى النخاع ينثر ماساته نارا ونورا وحرقة وشوقا. هو فيض في كل لحظة انتظر أن ينفجر منه الينبوع وتأتي كلماته سيلا إذا نفخت في أعماقه الريح... أكثر من مرة وأنا أحاوره وبمناسبة فكرة أو كلمة عارضة ينطلق جواده ويسيل فيضه هادرا...اقرؤوا هذه الكلمات جاءت وليدة لحظة ما... كلمات لم يشتغل عليها ولم يضبطها (كما يقول هو)

قهوة المساء على حافة المساء
تتنزل الآن من سماء عفية بالشوق
وتدنينا من رائحتها كلما قاب الشوق أو أدنى
ونشربها نخب ليلة تنام على وسادة القصيدة
وتحلم أنها تحلم
قهوتك الفجر
قهوتك الندى على نافذتك ينام
سأغنيك ونرقص على وجع مضى
ونركل ذكريات بائسة
وندفن جثث البؤس
ونعيد زرع النوارس على بحرنا

الخ

هكذا يكتب العطاري حين لا يكتب. وهكذا شعره حين لا يقول شعرا .مسكون بأسطورة القصيدة دون أن تقيده القوافي ولكن دون أن يعبث بموسيقى الشعر.أسير هو للكلمة الفاعلة واللفظة السرية المباغتة. نفس من بلور الكريستال وأنفاس من شظايا الحديد.كلمة حائرة محيرة مغموسة في نبيذ الحب والمعاناة مقطرة معتقة...هو الذي يقول :
" أنا عابر سبيل ابحث عن ظل اتفيأ به من شمس غربة تحرقني .عن جدول يروي ظمأ صحراء تحلم بواحة.عن مدينة شعرية تنام على هزج القصائد....."
هو الريح وهو في دوامة ريح تهزه وتدفعه تطوح به وتعيده....ريح خلق فيها..وريح خلقت
فيه وريح خلقها هو وريح لم يدر خالقها..

"الريح لهاث البحر
إلى أين أيتها الريح تحملين ظمأ الشقوق
أنا عرّاب الريح
سأحمل الريح التي أدومها لأطير في الريح (عراب الريح)

الريح طوحت به ولكنها جعلته يبحث عن جناحين ليطير ويصل إلى عتبات الماضي ويستنشق عبق التاريخ والمجد
" ليت لي جناحين كي تحملني الريح
على كتف الريح
كريشة طائر"

والريح سكنته وأرجحته ولكنه دائما يلم نثاره ويجمع ما في جسمه النحيل من خلايا الصبر وأنسجة الصمود والمقاومة ويعصف صرصرا على الغاصب المحتل وعلى كل ما يحيط به
من أوضاع مأسوية

اصبر واشدد خاصرة الوقت
تبصر عين الماء
توضأ منها ورتل آيات السماء
واجلس قرب الليل
وارفل وقت الصبر
إذا جاء مخاض اللقاء (المتعب)

سألته مرة ونحن بين ريح وريح نضم روحا لروح هل تغازلك فكرة الهجرة إلى وطن عربي تستقر فيه? فكان ريحا علي هائجا مائجا ولو لا روحه السمحة وفهمه أن في سؤالي استفزازا لا غير لقذف بي في جب يوسف قرب عرّابة. قال لي : هنا كنت وأكون. هذه ارضي وتلالي ودوثان تاريخي وعرّابة والحداء

هنا قرب ظلال بيتنا العتيق
قرب رائحة الطين المجبول بعرق الشيخوخة
المبلل بغناء الحصاد وسهر البيادر

وأيضا
"أنا هنا يا بحر اغنيك
فلا تحملوا نعشي...تمهلوا
حتى تنهي الروح رقصتها
ويعود المقهى
تعود القصيدة أغنية
واللحن الصاخب الحر
إلى القرميد
وحيفا مغسولة الشبابيك والأدراج " (هل تسمع يا مرجنا)

هكذا هو العطاري كنعاني أصيل طيب رقيق شديد مارد على من سلب حقه واستباح كل شيء في أرضه... كل كلمة تصدر عنه هي أغنية نضال ونشيد للوطن وسمفونية للأرض السليبة. كتاباته يرصد فيها الواقع الصعب والنكبة المتواصلة ويرسم فيها الآتي والمأمول دون تشنج وبصدر يحاول اتساع المدى وبكلمة رشيقة أنيقة دقيقة فيها الحلم وفيها الفعل... وكل هذا أتعب شاعرنا

"أنا متعب من خطوات تتآكل فوق الطرقات" (ثوب)

متعب وراغب في ازدياد لان استراحة المحارب مستحيلة والوطن مغتصب والجرح ينزف

" يا وطني النازف من جرحي نايا حجريا
أبحث عني فيك
أبحث عن وجهي في الطين المتحرك
ما عدت اقدر أن اصنع من قمح مروجنا
رغيف خبز وكعكة عيد...يفرح بها طفلي" (رغيف التعب)

ومعاناته تكبر هذه الأيام ونزيف جرحه الغائر وهو يعيش ما نتابعه جميعا من اعتداءات على الأماكن المقدسة في القدس وهو من المساهمين الفاعلين في تظاهرات القدس عاصمة للثقافة العربية ولكن بأي طريقة ومن أي زاوية وبأية وسائل...اقرؤوه يكتب في إشارة للموضوع في إحدى الصحف : ما زلنا ننقش على كاحل الفجر نشيدنا المقدسي ونغتسل بالطلل العالق على نتوءات أسوارها ونكتب به ما تيسر من الكلام العابر إلى الأرجاء... ونسمع أصداء أولياء الله ونساكه وعبادا مروا على المسجد والقبة والكنيسة طلاب معرفة ومغفرة حطوا ما برحوا المكان (الشروق يوم 30 _7 2009)

وأنت تتنقل بين قصائد العطاري تحتضنك مفاهيم أربعة لا يتنفس الشاعر إلا بها ولا يحيا إلا لها : الوطن والقضية _التاريخ والهوية_الأم_ والحبيبة. وهو يتطرق إليها في ترنيمة يطغى عليها التعب والحلم والأمل. انظروا معي :

1) التعب
- يهيم الوجه على قدمين متعبين
وفاه مثقل بغبار الكلام (أجراس الحلم)

- هذا المساء المتعب كقلبي من الرصاص (همس السيرة)

- متعب إيقاعي كهذا الغبش العائم اللزج (همس السيرة)

- إلى أين تلاحقني المسافات
وأنا المتعب منها
المتعب من نبوءة العرافات (المتعب)

وللتعب دلالة أن هذا الشاعر المناضل يعيش الم وطنه بعمق واستمرار. العطاري وكل فرسان الكلمة في فلسطين اخذوا على عاتقهم الجهاد بالكلمة وهذا يرهقهم لان همهم أن يسمعوا صدى لكلماتهم وهذا ليس دائما ممكنا ولا سهل التحقيق

2) الألم
كل قصائده حكاية الم قديم جديد متواصل.وألمه متشعب متداخل واضح وخفي. ولكنه الم ولآد
- هذي ضلعي مكسورة كسارية(ثوب)
- ارتد صوتي شظايا وغبرة(همس السيرة)
- ومجدافي من يدي المقطوعة(همس السيرة)
- أنا صيف بلا أشجار.. بلا انهار...الخ

3) الحلم

" دع الحلم يكبر
دع الحلم يحبو كطفل
يزحف نحو بوابة القبول
وتكسر ابتسامته عظام الجلاد"

4) الأمل
" يا رب إلى متى ..قالت
فهبط النجم مبشرا
والنجم إذا هوى
يحمل البشارة بموعد الفجر
لصوت سفينة لا تحمل صوتها "

عند العطاري القصيدة قصائد والأنة أنات والوجع أوجاع. الوطن حاضر دوما ووجه الحبيبة يوحي والأرض تنادي.كلها تشكل أنة الشاعر الرافض للظلم والقهر. عندما تقرا القطعة الواحدة ترتسم أمامك فسيفساءه العطاري الواحدة يشكل خرزاتها كل مرة في لوحة جديدة وبهندسة رائقة. هو الذي قال في احد الحوارات الصحفية..هذا وطننا وهذا قدرنا وعلينا أن نعيشه حبا وحياة وحكاية جميلة._انتهى كلامه__والعطاري بارع اشد البراعة ليجعلك تعيش بقلم رصاصه حكاية متشعبة يمزج فيها قهوته بقهرته وجنونه بمحونه وآلامه بآماله سجنه بحريته
" ستة جدران ونافذتي أغنيتي
باردة كالجثة هذي الزنزانة
لكن أغنيتي أطلقها في الطير
وأغنيتي يحملها الطير
اذكر من غرفة تحقيقي كيف حملت وكيف
سياط الجند تغير لون الجلد
وكيف تخذ غريزتها فوق اللحم"

هذا الشاعر المسلوب الحرية والهواء المتعب من واقع عربي مزري ومن صراعات الرفاق المخزية لا ينفك يطلق صرخته في حضور دائم عبر الجرائد والمجلات وعبر الإنترنت وعبر محاولات لترجمة نصوصه ليصل الصوت ابعد من الوطن العربي...هذا الشاعر الكروان المثقف ثقافة واسعة حرة واضحة في قلمه وفي لسانه المتشبع بأدب القدامى وبأدب الثورات في العالم وحتى بالأدب الغربي يصنع قصيدة جديدة في لونها وهندستها لذيذة في طعمها ورائحتها.. لا أصنفها..هي قصيدة العطاري.

هذا الشاعر الذي تعلو محياه مسحة من الخجل والشجن- مما يزيد في عدد المعجبات- هو ابن البيادر والزجل والحداء...لا تفارقه ماساته المتعددة الجذور:

"فضي قمصان الليل لتهدأ أجنحتي " (عرّاب الريح)
"وأي بلاد ستفتح لعيني أبوابها العمياء" (صبيحة)
"نصرخ.. ووجه الموت
يطاردنا في أزقة العمر"

ولكن له أيضا سلواه
"ويد أمي تمسدني بيضاء كلون الرغبة
يد أمي تعلمني ما لا أنسى" (ثوب)

"أنسى يا تيماء بين يديك
أني طريد في ارضي (تيماء).

حين سأله احد الصحافيين، أيهما متغلب فيك على الآخر السياسي أم الشاعر؟ أجاب أن السياسة مراوغة وحيلة ودهاء.. والحقيقة أن العطاري سياسي في شعره، ففي لغته مراوغة وكلماته مرصوفة بذكاء وحيلة)، ولا ينقصه الدهاء( والمراوغة والحيلة تصنع في الشعر أشياء جميلة جداً).
هو سياسي وشاعر، يتقن اللعبتين، ويحسن المشي على الحبلين، يكتب بالضوء ويقف عند الضوء، وهو الذي يتمنى أن يكون الشعر شرطي المرور.
في شعره وثبة وضمة ولثمة ...حرب وحب..ولغة مغايرة لما هو سائد وجرس بديع، هو بحر أبيض متوسطي قد يكون هادراً فائراً تتلاطم أمواجه فتمطر السحب، وقد يكون هادئاً حالماً ساكناً ترى وجهك في مائه وفي قاعه ...وفي كل الحالات هو يختزن درراً فهل سألوا الغواص عن صدفاته؟ كان دوثان مصافحته الأولى لنا فنجح ليكون البدء جميلا:

" في البدء كنا نحتار بأسمائنا
بألوان الحبر الذي نكتب به رسائل الغرام
برائحة الأزهار في حديقة لا نعرف اسمها
بعبق الطرقات المجهولة الاتجاه
في البدء كنا نحتار كيف نرتدي ملابسنا
كي نكون أجمل
كي نكون أكثر في اللقاء
كنا نحتار بأي التحية نبدأ
بالسلام العتيق
بالعناق الشهي
بالعين التي تقطر شوقا"

وبعد هذا البدء السليم عليه أن يأخذ قلبه بوصلة ليواصل الطريق:
" وهذا بحري هائج وقاربي أضلع ابن نوح
ومجدافي من يدي المقطوعة
لكن قلبي بوصلة تشير
إلى خطاي على الموج" .

فإذا كان قلبك هو البوصلة يا كروان (عرّابة) ستكون خطاك سديدة، امتط جوادك ولا تخش شيئا ،واركب جنونك وانطلق، كن بلبلا صادقا بنشيدك ..مهما كانت النوبات، وانطلق ...معك الريح، البحر أمامك... والبحر وراءك... ولا تفارق ابتسامتك.

* إعلامية / تونس

ليست هناك تعليقات: