2‏/2‏/2010

دوثان" لعبد السلام العطاري: مرافعة شعرية تاريخية



توفيق العيسى*
متعب يحمل صوته ديوان شعر، يتأبط الغيم كتاباً تفوح منه رائحة الوطن المعفرّ بالزعتر البريِّ وبالرصاص والدم، متعبٌ بذاكرتهِ، ولهاثه الريح المسافرة نحو الشرق، والبحر عرّاب رحلتنا، عرّاب هجرتنا الأولى وما تلاها من هجرات، والبحر ينطق اسماً كنعانياً، والصخر يهزج بلحنٍ كنعاني في وجه الخُرافيِ حتى العظم.
في ديوانه الأول "دوثان" يعود الشاعر عبدالسلام العطاري إلى طفولته بعد تعب استبد به، يعود إلى ثوب أمه "الأرجوان" يعود إلى ضحكته الأولى وأرجوحة معلقة في خياله.
الاّ أن هذه العودة لا تشبه بأي حال من الأحوال عودة الابن الضال، الذي عاد منكسراً تائباً؛ فالعطاري عاد مشهراً الأسطورة/ الحقيقة في وجه الخرافة.
يطالعنا العطاري في بداية ديوانه بتعلقه بثوب أمه "الأرجوان" فهي لحظة شعورية تسللت عبر متاعب الحياة إلى روحه، وكأننا أمام فيلم سينمائي يبتدئ بحوار الذات ثم يذهب للكشف عن ماهيته:
"أنا.. المتعب من خطوات تتآكل فوق الطرقات
وهذا الطين تبغي.. وشميمي ثوبك"
ثم يصرخ كمن يشاهد صورته في المرآة لأول مرة
" هذا أنا.. هذا وجهي
وهذا ضلعي مكسور كسارية".
وفي قصيدة "همس السيرة" يعبر عن عن انكساره وتعبه ولكن بصورة أشد وأقوى، فهو في قاربه وسط الأمواج يحاول النجاة ولكن بلا فائدة فلقد صنع قاربه من أضلع ابن نوح "الهالك" ومجدافه يده المقطوعة.
"متعب إيقاعي كهذا الغبش العائم اللزج،
ووحدك تحمل المقادير،
وهذا بحري هائج، وقاربي أضلع ابن نوح
ومجدافي من يدي المقطوعة".
الشاعر فقد البوصلة وأصبح التمني القشة التي يتعلق بها:
"لو كان شعرك يا امراتي رصيف ميناء ما تهت".
ونجد ذلك التمني بقصيدة ليت التي يتمنى بها أن يكون ريشة تحمله الريح على كتف الريح.
ويصل إلى حالة مزرية يرثى لها فلم يعد يرى الجميل جميلا في قصيدة" همس السيرة"
"الليل صرخة فاحمة
والفرقد مليم صدئ".
ويتساءل في طفولة وحرقة في قصيدة عراب الريح، أين الشرق؟
ولعل تلك القصائد التي يحاكي فيها الشاعر أبناءه كانت أجمل في وصفها للتشظي الذي يعيشه الشاعر وكيف تعيده براءة وحب أبناءه لطفولته هو، ولكن في هذه القصائد لم يتخلَّ الشاعر عن الأمل.
التعب الذي ترافقه الحيرة والحب والأمل استطاع العطاري أنْ يُكوّن منه موجا لبحر قصائده، يتماوج حسب اللحظة الشعورية والدفقة؛ فمرة عاشق وأخرى متعب حائر وأخرى يعصف به الأمل.
وعودة إلى "دوثان" هذه الأرض الجِنينية شرق قرية عرابة، نرى لما كان يتساءل الشاعر أين الشرق؟ فلقد أضاع طفولته نسيها هناك في "دوثان" وها هو بعد رحلة طويلة يعود ليسأل عن الشرق.
فدوثان الاسم الكنعاني "الذي تدخل فيه الأسماء وتخلق منه الأسماء"، إشارة إلى تأثر اللغات الأخرى باللغة الكنعانية ونشأتها على اشتقاقات لسان كنعان مؤكدة هوية الأرض. ويسترسل الشاعر في البوح وكأنه يقدم لنا مرافعة شعرية تاريخية عن الأرض عبر رسم صور للمعارك والخيول والدوري المغرد "على متن العُليْق"، والرعاة الذين ملّوا عزف الناي بلا رقص".
ونجد حرقة في محاولة تأكيده على الهوية للأرض عبر استخدامه لكلمة "دقَّ" مرسخا بذلك كعب "الفلستي" وبقوة.
" دوثان" الشاهدُ على كعبِ فلستيٍّ دَقَّ كعبَهُ في وادِ التفاحِ على رقصٍ فينيقيٍّ وصَيحةِ قطاةٍ تُسْحِرُ السَّفحَ/ توقظُ الحُبَّ الخَجِلَ في عيونِ وَرّاداتِ الماءِ ربّاتِ الجِرارِ".
فلم يعد دوثان مجرد أرض وتساؤلات حول الجُبّ الذي ألقي فيه النبي يوسف فهي "وشم الذاكرة" وهي مجموع أسئلة على شفاه الصغار عمن يشنون الحروب ولماذا يشنونها ولماذا يكتب طفل عن الحرب، ودوثان هي حيرة الشاعر في بحثه الدائم عن فكرة بجناحين، وهي وثيقة عشق لباحث عن خصلة شعر امرأة بحجم رصيف الميناء.
*كاتب من فسطين
Tawfeeq_essa@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: